فصل: الآية رقم ‏(‏102‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 ال

آية رقم ‏(‏102‏)‏ ‏{‏ وإذا كنت فيهم

فأقمت لهم الصلاة فلتقم

طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ‏}‏  صلاة الخوف أنواع كثيرة فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة، وتارة يكون في غير صوبها، والصلاة تارة تكون رباعية، وتارة تكون ثلاثة كالمغرب، وتارة تكون ثنائية كالصبح وصلاة السفر، ثم تارة يصلون جماعة وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة غير مستقبليها ورجالاً وركباناً، ولهم أن يمشوا والحالة هذه ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة‏.‏ ومن العلماء من قال‏:‏ يصلون والحالة هذه ركعة واحدة لحديث ابن عباس المتقدم وبه قال أحمد بن حنبل، وقال إسحاق بن راهويه‏:‏ أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدى تومىء بها إيماء‏.‏ فإن لم تقدر فسجدة واحدة لأنها ذكر اللّه‏.‏ ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة كما أخر النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم الأحزاب الظهر والعصر فصلاهما بعد الغروب، ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء، وكما قال بعدها يوم بني قريظة حين جهز إليهم الجيش لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بين قريظة فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق، فقال منهم قائلون‏:‏ لم يرد منا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا تعجيل المسير ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها في الطريق، وأخر آخرون منهم صلاة العصر فصلوها في بني قريظة بعد الغروب ولم يعنف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحداً من الفريقين‏.‏ وأما الجمهور فقالوا‏:‏ هذا كله منسوخ بصلاة الخوف فإنها لم تكن نزلت بعد، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك‏.‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم

الصلاة‏}‏ أي إذا صليت بهم إماما في صلاة الخوف وهذه حالة غير الأولى، فإن تلك قصرها إلى ركعتة - كما دل عليه الحديث - فرادى ورجالا وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، ثم ذكر حال الإجتماع والائتمام بإمام واحد وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك وأما من استدل بهذه الآية على أن صلاة الخوف منسوخة بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم لقوله ‏{‏وإذا كنت فيهم‏}‏ فبعده تفوت هذه الصفة فإنه استدلال ضعيف، ويرد عليه مثل قول مانعي الزكاة الذين احتجوا بقوله‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم‏}‏ قالوا‏:‏ فنحن لا ندفع زكاتنا بعده صلى اللّه عليه وسلم إلى أحد، بل نخرجها نحن بأيديدنا معلى من نراه، ولا ندفعها إلى إلى صلاته أي دعاؤه سكن لنا، ومع هذا رد عليهم الصحابة وابوا عليهم هذا الاستدلال وأجبروهم على أداء الزكاة وقاتلوا من منعها منهم‏.‏ ولنذكر سبب نزل هذه الآية الكريمة أولاً قبل

ذكر صفتها قال ابن جرير عن علي رضي اللّه عنه قال‏:‏ سال قوم من بني النجار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي‏؟‏ فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ ‏{‏وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ ثم انقطع الوحي، فلما كان كذلك بحول غزا النبي صلى اللّه عليه وسلم فصلى الظهر، فقال المشركون لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلاَّ شددتم عليهم‏؟‏ فقال قائل منهم‏:‏ إن لهم أخرى مثلها في أثرها قال‏:‏ فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ بين الصلاتين ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ الآيتين فنزلت صلاة الخوف‏.‏ وعن أبي عياش الزرقي قال‏:‏ منا مع رسول الله

ّ صلى اللّه عليه وسلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الظهر فقالوا‏:‏ لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا‏:‏ يأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، قال‏:‏ فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر العصر ‏{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة‏}‏ قال‏:‏ فحضرت فأمرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخذوا السلاح قال‏:‏ فصفنا خلفه صفين قال‏:‏ ثم ركع فركعنا جميعاً، ثم رفع فرفعنا جميعاً ثم سجد النبي صلى اللّه عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ثم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ثم ركع فركعوا جميعاً ثم رفع فرفعوا جميعاً، ثم سجد النبي صلى اللّه عليه وسلم والصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم، ثم انصرف قال‏:‏ فصلاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرتين مرة بعسفان ومرة بأرض بني سليم ‏"‏رواه أحمد وأصحاب السنن‏"‏ وروى الإمام أحمد عن جابر بن عبد اللّه قال‏

:‏ قاتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم محارب خصفة، فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث حتى قام على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالسيف فقال‏:‏ من يمنعك مني‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الله‏)‏ فسقط السيف من يده فأخذه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏ومن يمنعك مني‏)‏ قال‏:‏ كن خير آخذ قال‏:‏ ‏(‏أتشهد أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ لا، وكن أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك فخلى سبيله، فقال‏:‏ جئتكم من عند خير الناس، فلما حضرت الصلاة صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلاة الخوف فكان الناس طائفتين، طائفة بإزاء العدو‏.‏ وطائفة صلوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فصلى بالطائفة الذين معه ركعتين وانصرفوا فكانوا مكان الطائفة الذين كانوا بإزاء العدو ثم انصرف الذين كانوا بإزاء العدو فصلوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ركعتين فكان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتين ركعتين ‏"‏تفرد به الإمام أحمد‏"‏وأما الأمر بحمل السلاح في صلاة الخوف فمحمول عند طائفة من العلماء على الوجوب لظاهر الآية وهو أحد قولي الشافعي ويدل عليه قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعو أسلحتكم وخذوا حذركم‏}‏ أي بحيث تكونون على أهبة إذا احتجتم إليها لبستموها بلا كلفة ‏{‏إن اللّه أعد للكافرين عذاباً مهينا‏}‏‏.‏  الآية رقم ‏(‏103 ‏:‏104‏)‏ ‏{‏ فإذا قضي

تم الصلاة فاذكروا الله قياما

وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ‏.‏ ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما ‏}‏ يأمر اللّه تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخ

وف وإن كان مشروعاً مرغباً فيه أيضاً بعد غيرها ولكن ها هنا آكد، لما وقع فيها من التخفيف في اركانها، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب، وغير ذلك مما ليس يوجد في غيرها كما قال تعالى في الأشهر الحرام‏:‏ ‏{‏فلا تظلموا فيهن أنفسكم‏}‏ وإن كان منهياًعنه في غيرها، ولكن فيه آكد لشدة حرمتها وعظمها، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم‏}‏ أي في سائر أحوالكم، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة‏}‏ أي فإذا أمنتم وذهب الخوف، وحصلت الطمأنينة ‏{‏فأقيموا الصلاة‏}‏ أي فأتموها وأقيموها كما أمرتم بحدودها، وخشوعها، وركعوعها، وسجودها، وجميع شؤونها وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي مفروضاً، وقال ابن مسعود‏:‏ إن للصلاة وقتاً كوقت الحج، وقال زيد بن أسلم‏:‏ منجماً كلما مضى نجم جاء نجم، يعني كلما مضى وقت جاء وقت‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تهنوا في ابتغاء القو

م‏}‏ أي لا تضعفوا في طلب عدوكم، بل جدّوا فيهم، وقاتلوهم، واقعدوا لهم كل مرصد ‏{‏إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون‏}‏ أي كما يصيبكم الجراح والقتل كذلك يحصل لهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله‏}‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وترجون من اللّه ما لا يرجون‏}‏ أي أنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم من الجراح والآلام، ولكن أنتم ترجون من اللّه المثوبة والنصر والتأييد كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم وهو وعد حق، وخبر صدق، وهم لا يرجون شيئاً من ذلك، فأنتم أولى بالجهاد منهم وأشد رغبة فيه، وفي إقامة كلمة اللّه وإعلائها ‏{‏وكان اللّه عليماً حكيما‏}‏ أي هو أعلم وأحكم فيما يقدره ويقضيه وينفذه ويمضيه من أحكامه الكونية والشرعية وهو المحمود على كل حال‏.‏  الآية رقم ‏(‏105 ‏:‏ 109‏)‏ ‏{‏ إنا أنزل

نا إليك الكتاب بالحق لتحكم بي

ن الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ‏.‏ واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ‏.‏ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ‏.‏ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ‏.‏ ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ‏}‏ يقول تعالى مخاطباً لرسوله محمد صلى اللّه ع

ليه وسلم ‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق‏}‏ أي هو حق من اللّه وهو يتضمن الحق في خبره وطلبه، وقوله‏:‏ ‏{‏لتحكم بين الناس بما اراك اللّه‏}‏ احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلى اللّه عليه وسلم له أن يحكم بالإجتهاد بهذه الآية وبما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال‏:‏ ‏(‏ألا إنما أنا بشر وإنما أقضي بنحو مما أسمع ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها‏)‏ وقال الإمام أحمد عن أم سلمة قالت‏:‏ جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست ليس عندهما بيِّنه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها انتظاماً في عنقه يوم القيامة‏)‏ فبكى الرجلان وقال كل منهما‏:‏ حقي لأخي، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه‏)‏ وقد روى ابن مردويه عن ابن عباس‏:‏ أن نفراً

من الأنصار غزوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بعض غزواته فسرقت درع لأحدهم فأظن بها رجل من الأنصار فأتى صاحب الدرع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏{‏إن طعمة بن أبيرق سرق درعي، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته‏:‏ إني غيَّبتُ الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده، فانطلقوا إلى نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلاً فقالوا‏:‏ يا نبي اللّه إن صاحبنا بريء وإن صاحب الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علماً فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه اللّه بك يهلك، فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيماً‏}‏‏.‏ ثم قال تعالى للذين أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مستخفين بالكذب‏:‏ ‏{‏يستخفون من الناس ولا يستخفون من اللّه‏}‏ يعني الذين أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائنين ثم قال عزَّ وجل‏:‏ ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه‏}‏ الآية يعني الذين أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مستخفين بالكذب، ثم قال‏:‏ ‏{‏ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً‏}‏ يعني السارق والذين جادلوا عن السارق‏.‏ وقد روى هذه القصة الترمذي وابن جرير عن قتادة

بن النعمان رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان أهل بيت منا يقال لهم بنوا أبيرق بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلاً منافقاً يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم يمحله لبعض العرب، ثم يقول‏:‏ قال فلان كذا وكذا، وقال فلان كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك الشعر قالوا‏:‏ واللّه ما يقول هذا الشعر إلا هذا الرجل الخبيث - أو كما قال الرجل - وقالوا‏:‏ ابن الأبيرق قالها، قالوا‏:‏ وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة المكارون الذين ينقلون التجارة من بلد إلى بلد من الشام من الدرمك الدقيق الابيض ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، أما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من الدرمك فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاح ودرع وسيف، فعدي عليه من تحت البيت فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح‏.‏ فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال‏:‏ يا ابن أخي إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنان فذهب بطعامنا وسلاحنا، قال فتحسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا‏:‏ قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم قال‏:‏ وكان بنوا أبيرق قالوا - ونحن نسأل في الدار - واللّه ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلاً منا له صلاح وإسلام، فلما سمع لبيد اخترط سيفه، وقال‏:‏ أنا أسرق‏!‏‏؟‏ واللّه ليخالطنكم هذا السيف، أو لتبينُنَّ هذه السرقة، قالو‏:‏ إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي‏:‏ يا ابن أخي لو أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكرت ذلك له قال قتادة‏:‏ فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت‏:‏ إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له، أخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏ سآمر في ذلك‏)‏ فلما سمع بذلك بنوا ابيرق أتو رجلاً منها يقال له اسيد بن عروة فكلموه في ذلك، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار، فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينه ولا ثبت، قال قتادة‏:‏ فأتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فلكلمته فقال‏:‏ ‏(‏عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة‏)‏، قال‏:‏ فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال‏:‏ يا ابن أخي ما صنعت‏؟‏ فأخبرته بما قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال‏:‏ اللّه المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيماً‏}‏ يعني بين أبيرق ‏{‏واستغفر اللّه‏}‏ أي مما قلت لقتادة ‏{‏إن اللّه كان غفوراً رحيماً، ولا تجادل الذين يختانون أنفسهم - إلى قوله - رحيماً‏}‏ أي لو استغفروا اللّه لغفر لهم ‏{‏ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه - إلى قوله - إثماً مبيناً‏}‏ قوله للبيد‏:‏ ‏{‏ولولا فضل اللّه عليك ورحمته - إلى قوله - فسوف نؤتيه أجراً عظيماً‏}‏ فلما نزل القرآن أتى رسول اللّه صلى اللّه

عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة، فقال قتادة‏:‏ لما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخاً قد عمي أو عشي في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولاً فلما أتيته بالسلاح قال‏:‏ يا ابن أخي هي في سبيل اللّه فعرفت أن إسلامه كان صحيحاً، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً، إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك باللّه فقد ضل ضلالاً بعيداً‏}‏ فلما نزل على سلافة بنت سعد هجاها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت به فرمته في الأبطح، ثم قالت‏:‏ أهديت لي شعر حسان ما كنت تأتيني بخير ‏"‏رواه الترمذي وابن جرير من حديث قتادة بن النعمان‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يستخفون من الناس ولا يست

خفون من اللّه‏}‏ الآية، هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم، ويجاهرون اللّه بها مع أنه مطلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان اللّه بما يعملون محيطاً‏}‏ تهديد لهم ووعيد، ثم قال تعالى‏:‏ وها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا‏}‏ الآية، أي هب أن هؤلاء انتصروا في الدنيا بما أبدوه أو أبدى لهم عند الحكام الذين يحكمون بالظاهر وهم متعبدون بذلك، فماذا يكون صنيعهم يوم القيامة بين يدي اللّه تعالى الذي يعلم السر وأخفى‏؟‏ ومن ذا الذي يتوكل لهم يومئذ يوم القيامة في ترويج دعواهم‏؟‏ أي لا أحد يومئذ يكون لهم وكيلاً، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أم من يكون عليهم وكيلاً‏}‏‏؟‏‏.‏‏.‏  الآية رقم ‏(‏110 ‏:‏ 113‏)‏ ‏{‏ ومن يعمل

سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر ا

لله يجد الله غفورا رحيما ‏.‏ ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ‏.‏ ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ‏.‏ ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما‏}‏ يخبر تعالى عن كرمه وجوده أن كل من تاب إلي

ه تاب عليه من أي ذنب كان ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر اللّه يجد اللّه غفوراً رحيماً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أخبر اللّه عباده بعفوه وحلمه وكرمه، وسعة رحمته، ومغفرته، فمن أذنب ذنباً صغيراً كان أو كبيراً ‏{‏ثم يستغفر اللّه يجد اللّه غفوراً رحيماً‏}‏ ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال ‏"‏أخرجه ابن جري عن ابن عباس‏"‏وقال ابن جرير قال عبد اللّه‏:‏ كان بنوا إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنباً أصبح قد كتب كفارة ذلك الذنب على بابه، وإذا أصاب البول منه شيئا قرضه بالمقراض، فقال رجل‏:‏ لقد آتى اللّه بني إسرائيل خيراً، فقال عبد اللّه رضي اللّه عنه‏:‏ ما آتاكم اللّه خير مما آتاهم جعل الماء لكم طهوراً، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر اللّه يجد اللّه غفوراً رحيماً‏}‏ وقال علي رضي اللّه عنه‏:‏ كنت إذا سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئاً نفعني اللّه فيه بما شاء أن ينفعني منه، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يذنب ذنباً ثم يتوضأ ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر اللّه لذلك الذنب إلاغفر له ‏)‏وقرأ هاتين الآيتين‏:‏ ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه‏}‏ الآية، ‏{‏والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم‏}‏ ‏"‏رواه أحمد‏"‏الآية‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يكسب إثماً فإنما يكس

به على نفسه‏}‏ الآية، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تزرو وازرة وزر أخرى‏}‏ الآية، يعني أنه لا يغني أحد عن أحد، وإنما على كل نفس ما عملت لا يحمل عنها غيرها، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكان اللّه عليماً حكيماً‏}‏ أي من علمه وحكمته، وعدله ورحمته كان ذلك، ثم قال‏:‏ ‏{‏ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً‏}‏ الآية يعني كما اتهم بنو أبيرق‏:‏ بصنيعهم القبيح ذلك الرجل الصالح وهو لبيد بن سهل كما تقدم في الحديث، أو زيد بن السمين اليهودي على ما قاله الآخرون وقد كان بريئاً وهم الظلمة الخونة كما أطلع اللّه على ذلك رسوله صلى اللّه عليه وسلم ؛ ثم هذا التقريع وهذا التوبيخ عام فيهم وفي غيرهم ممن اتصف بصفتهم فارتكب مثل خطيئتهم فعليه مثل عقوبتهم، وقوله‏:‏ ‏{‏ولولا فضل اللّه عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء‏}‏ وقال الإمام ابن أبي حاتم عن قتادة بن النعمان وذكر قصة بني أبيرق فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء‏}‏ يعني أسيد بن عروة وأصحابه يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم وهم صلحاء برآء ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولهذا أنزل اللّه فصل القضية وجلاءها لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم امتن عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال؛ وعصمته له؛ وما أنزل عليه من الكتاب وهو القرآن والحكمة؛ وهي السنة ‏{‏وعلمك ما لم تكن تعلم‏}‏ أي قبل نزول ذلك عليك كقوله‏:‏ ‏{‏وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب‏}‏ إلى آخر السورة؛ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك‏}‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وكان فضل اللّه عليك عظيماً‏}‏‏.‏  الآية رقم ‏(‏114 ‏:‏ 115‏)‏ ‏{‏ لا خير

في كثير من نجواهم إلا من أمر

بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ‏.‏ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ‏}‏ يقول تعالى‏:‏ ‏{‏لا خير في كثير من نجواهم

‏}‏ يعني كلام الناس ‏{‏إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس‏}‏ أي إلا نجوى من قال ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه عن أم حبيبة قالت‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر اللّه عزَّ وجلَّ؛ أو أمر بمعروف؛ أو نهي عن منكر‏)‏، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً؛ أو يقول خيراً‏)‏، وقال الإمام أحمد عن أبي الدرداء قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏الا أخبركم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة‏)‏ قالوا بلى يا رسول اللّه قال‏:‏ ‏(‏إصلاح ذات البين‏)‏ قال‏:‏ ‏(‏وفساد ذات البين هي الحالقة‏)‏ ورواه أبو داود والترمذي، ‏{‏ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات اللّه‏}‏ أي مخلصاً في ذلك محتسباً ثواب ذلك عند اللّه عزّ وجلَّ ‏{‏فسوف نؤتيه أجراً عظيماً‏}‏ أي ثواباً جزيلاً كثيراً واسعاً‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يشاقق الرسول من بعد

ما تبين له الهدى‏}‏ أي ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى اللّه عليه وسلم فصار في شق، والشرع في شق وذلك عن عمد منه، بعدما ظهر له الحق وتبين له واتضح له، وقوله‏:‏ ‏{‏ويتبع غير سبيل المؤمنين‏}‏ هذا ملازم للصفة الأولى، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية، فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقاً، فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ، تشريفاً لهم وتعظيماً لنبيهم، وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك‏.‏ ومن العلماء من ادعى تواتر معناها، والذي عول عليه الشافعي رحمه اللّه في الإحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته هذه الآية الكريمة بعد التروي والفكر الطويل، وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها على ذلك ولهذا توعد تعالى على ذلك بقول‏:‏ ‏{‏نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً‏}‏ أي إذا سلك هذه الطريق جازيناه علىذلك بأن نحسنها في صدره ونزينها له استدراجاً له كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما زاغوا أزاغ اللّه قلوبهم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ونذرهم في طغيانهم يعمهون‏}‏ وجعل النار مصيره في الآخرة لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏احشروا الذين ظلموا وأزواجهم‏}‏ الآية وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً‏}‏‏.‏  الآية رقم ‏(‏116 ‏:‏ 122‏)‏ ‏{‏ إن الل

ه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما

دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ‏.‏ إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ‏.‏ لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ‏.‏ ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا ‏.‏ يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ‏.‏ أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا ‏.‏ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا ‏}‏ قد تقدم الكلام على هذه الآية الكريمة وهي ق

وله‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك‏}‏ الآية، وذكرنا ما يتعلق بها من الأحاديث في صدر هذه السورة وقد روي الترمذي عن علي رضي اللّه عنه أنه قال‏:‏ ما في القرآن آية أحب إليّ من هذه الآية‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يغفر أن يشرك به‏}‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ومن يشرك باللّه فقد ضل ضلالا بعيداً‏}‏ أي فقد سلك غير الطريق الحق وضل عن الهدى وبعد عن الصواب وأهلك نفسه، وخسرها في الدنيا والآخرة، فاتته سعادة الدنيا والآخرة وقوله‏:‏ ‏{‏إن يدعون من دونه إلا إناثاً‏}‏، عن عائشة قالت‏:‏ أوثاناً، وقال ابن جرير عن الضحاك في الآية قال المشركون للملائكة‏:‏ بنات اللّه، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى اللّه زلفى، قال‏:‏ فاتخذوهن أبابا وصوروهن جواري فحكموا وقلدوا، وقالوا‏:‏ هؤلاء يشبهن بنات اللّه الذي نعبده يعنون الملائكة وهذا التفسير شبيه بقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏أفرأيتم اللات والعزى‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً‏}‏ وقال ابن عباس ‏{‏إن يدعون من دونه إلا إناثا‏}‏ قال‏:‏ عني موتى، وقال الحسن‏:‏ الإناث كل شيء ميت ليس فيه روح، إما خشبة يابسة، وإما حجر يابس، وقوله‏:‏ ‏{‏وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً‏}‏ أي هو الذي أمرهم بذلك وحسنه وزينه لهم وهم إنما يعبدون إبليس في نفسه الأمر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم أعهد إليك يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان‏}‏ الآية، وقال تعالى إخباراً عن الملائكة أنهم يقولون يوم القيامة عن المشركني الذي ادعوا عبادتهم في الدنيا ‏{‏بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون‏}‏ وقول‏:‏ ‏{‏لعنه اللّه‏}‏ أي طرده وأبعده من رحمته، وأخرجه من جواره وقال‏:‏ ‏{‏لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً‏}‏ أي معيناً مقدراً معلوماً، قال قتادة من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة ‏{‏ولأضلنهم‏}‏ أي عن الحق ‏{‏ولأمنينهم‏}‏ أي أزين لهم ترك التوبة، وأعدهم الأماني، وآمرهم بالتسويف والتأخير، وأغرهم من أنفسهم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ولآمرنهم فلّيبتكنَّ آذان الأنعام‏}‏ قال قتادة يعني تشقيقها وجعلها سمة، وعلامة للبحيرة والسائبة والوصيلة ‏{‏ولآمرنهم فليغيرن خلق اللّه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني بذللك خصي الدواب، وقال الحسن البصري‏:‏ يعني بذلك الوشم، وفي صحيح مسلم النهي عن الوشم في الوجه، وفي لفظ، لعن اللّه من فعل ذلك‏.‏ وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ لعن اللّه الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات النامصات‏:‏ ناتفات الزغب والشعر من الوجه، والمتنمصات‏:‏ اللواتي ينتف الشعر من وجوههن والمتفلجات المتفلجات‏:‏ اللواتي يبردن أطراف أسنانهن للتجميل للحسن المغيرات خلق اللّه عزَّ وجلَّ، ثم قال ألا ألعن من لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو في كتاب اللّه عزَّ وجلَّ يعني قوله‏:‏ ‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏}‏ وقال ابن عباس في رواية عنه ومجاهد والضحاك

في قوله‏:‏ ‏{‏ولآمرنهم فليغيرن خلق اللّه‏}‏ يعني دين اللّه عزَّ وجلَّ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه‏}‏ على قول من جعل ذلك أمراً أي لا تبدلوا فطرة اللّه ودعوا النا على فطرتهم كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تجدون بها من جدعاء‏)‏‏؟‏ وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏قال اللّه عزّ وجلَّ‏:‏ إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم صرفتهم عن الهدى عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم‏)‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون اللّه فقد خسر خسراناً مبيناً‏}‏ أي فقد خسر الدنيا والآخرة وتلك خسارة لا جبر لها ولا استدراك لفائتها‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعدهم ويمنيهم وما يعدهم

الشيطان إلا غروراً‏}‏ وهذا إخبار عن الواقع فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة، وقد كذب وافترى في ذلك، ولهذا قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وما يعدهم الشيطان إلاغروراً‏}‏، كما قال تعالى مخبراً عن إبليس يوم المعاد‏:‏ ‏{‏وقال الشيطان لما قضي الأمر إن اللّه وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان - إلى قوله - وإن الظالمين لهم عذاب أليم‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي المستحسنون له فيما وعدهم ومنَّاهم ‏{‏مأواهم جهنم‏}‏ أي مصيرهم ومآلهم يوم القيامة ‏{‏ولا يجدون عنها محيصاً‏}‏ أي ليس لهم عنها مندوحة ولا مصرف، ولا خلاص، ولا مناص، ثم ذكر تعالى حال السعداء والأتقياء وما لهم من الكرامة التامة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ أي صدقت قلوبهم وعملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات، وتركوا ما نهو عنها من المنكرات ‏{‏سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ أي يصرفونها حيث شاءوا وأين شاءوا ‏{‏خالدين فيها أبداً‏}‏ أي بلا زوال ولا انتقال ‏{‏وعد اللّه حقاً‏}‏ أي هذا وعد من اللّه ووعد اللّه معلوم حقيقة أنه واقع لا محالة، ولهذا أكده بالمصدر الدال على تحقيق الخبر وهو قوله ‏{‏حقاً‏}‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أصدق من اللّه قيلاً‏}‏‏؟‏ أي لا أحد أصدق منه قولاً أي خبراً لا إله إلا هو ولا رب سواه وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول في خطبته‏:‏ ‏(‏إن أصدق الحديث كلام اللّه، وخير الهدي هديُ محمد صلى اللّه عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، كل ضلالة في النار‏)‏  الآية رقم ‏(‏123 ‏:‏ 126‏)‏ ‏{‏ ليس بأما

نيكم ولا أماني أهل الكتاب من

يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ‏.‏ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ‏.‏ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا ‏.‏ ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا ‏}‏ قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن المسلمين وأهل الك

تاب افتخروا، فقال أهل الكتاب‏:‏ نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى باللّه منكم، وقال المسلمون‏:‏ نحن أولى باللّه منكم ونبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يُجْزّ بِهِ‏}‏ ‏{‏ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه للّه وهو محسن‏}‏ الآية، ثم أفلج اللّه حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان‏.‏ وكذا روي عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه قال‏:‏ في هذه الآية تخاصم أهل الأديان، فقال أهل التوراة‏:‏ كتابنا خير الكتب، ونبينا خير الأنبياء، وقال أهل الإنجيل‏:‏ مثل ذلك، وقال أهل الإسلام‏:‏ لا دين إلا الإسلام، وكتابنا نسخ كل كتاب؛ ونبينا خاتم النبيين، وأمرتهم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا فقضى اللّه بينهم وقال‏:‏ ‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ الآية؛ وخيِّر بين الأديان فقال‏:‏ ‏{‏ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه للّه وهو محسن‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏واتخذ اللّه إبراهيم خليلاً‏}‏ وقال مجاهد‏:‏ قالت العرب لن نُبعث ولن نُعذب؛ وقالت اليهود والنصارى‏:‏ ‏{‏لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى‏}‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات‏}‏ والمعنى في هذه الآية أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني؛ ولكن ما قر في القلوب وصدقته الأعمال، وليس كل من ادعى شيئاً حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال إنه هو على الحق سمع قوله بمجرد ذلك حتى يكون له من اللّه برهان؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ أي ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني‏؟‏ بل العبرة بطاعة اللّه سبحانه واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام، ولهذا قال بعده‏:‏ ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره؛ ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره‏}‏‏.‏ وقد روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير

من الصحابة، قال الإمام أحمد بسنده أخبرت أن أبا بكر رضي اللّه عنه قال‏:‏ يا رسول اللّه كيف الفلاح بعد هذه الآية‏:‏ ‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجزبه‏}‏ فكل سوء عملناه جُزيناه به‏!‏ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏غفر اللّه لك يا ابا بكر ألست تمرض‏؟‏ ألست تنصب‏؟‏ ألست تصيبك اللأواء‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ ‏(‏فهو مما تجزون به‏)‏ وروى أبو بكر بن مردويه عن أبي بكر الصديق قال‏:‏ كنت عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون اللّه ولياً ولا نصيراً‏}‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏يا ابا بكر ألا أقرئك آية أنزلت عليّ‏)‏ قلت‏:‏ بلى يا رسول اللّه قال‏:‏ فأقرأنيها فلا أعلم أني قد وجدت انفصاماً في ظهري حتى تمطيت لها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏مالك يا أبا بكر‏)‏‏؟‏ قلت‏:‏ بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، وأينا لم يعلم السوء، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أما أنت يا أبا بكر واصحابك المؤمنون فإنكم تجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا اللّه ليس لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة‏)‏ وقال ابن جرير‏:‏ لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر‏:‏ جاءت قاصمة الظهر فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إنما هي المصيبات في الدنيا‏)‏ حديث آخر قال سعيد بن منصور عن عائشة‏:‏ أن رجلا تلى هذه الآية‏:‏ ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ فقال‏:‏ إنا لنجزي بكل ما عملناه هلكنا إذاً فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏نعم يجزى به المؤمن في الدنيا في نفسه في جسده فيما يؤذيه‏)‏ طريق أخرى قال ابن أبي حاتم عن عائشة قالت،

قلت يا رسول اللّه إني لأعلم أشد آية في القرآن فقال‏:‏ ‏(‏ما هي يا عائشة‏؟‏ قتل‏:‏ ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ فقال‏:‏ ‏(‏هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النكبة ينكبها‏)‏ وعن علي بن زيد عن ابنته أنها سألت عائشة عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏من يعلم سوءاً يجز به‏}‏ فقالت‏:‏ ما سألني أحد عن هذه الآية منه سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏يا عائشة هذه مبايعة اللّه للعبد مما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة حتى البضاعة فيضعها في كمه فيفزع لها فيجدها في جيبه حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما أن الذهب يخرج من الكير‏)‏ ‏"‏رواه أبو داود والطيالسي‏"‏ حديث آخر ‏:‏ قال سعد بن منصور عن محمد بن

قيس بن مخرمة‏:‏ أن أبا هريرة رضي اللّه عنه قال لما نزلت ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏سددوا وقاربوا فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها‏)‏ وهكذا رواه أحمد ورواه ابن جرير عن عبد اللّه بن إبراهيم سمعت أبا هريرة يقول‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ بكينا وحزنا وقلنا يا رسول اللّه ‏:‏ ما أبقت هذه الآمة من شيء قال‏:‏ ‏(‏أما والذي نفسي بيده إنها لكما أنزلت ولكن أبشروا وقاربوا وسددوا فإنه لا يصيب أحداً منكم مصيبة في الدنيا إلا كفر اللّه بها من خطيئته حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه‏)‏ حديث آخر ‏:‏ روى ابن مردويه عن ابن عباس قال

‏:‏ قيل يا رسول اللّه ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم ومن يعمل حسنة يجز بها عشراً‏)‏ فهلك من غلب واحدته عشراته‏.‏ وقال ابن جرير عن الحسن ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ قال‏:‏ الكافر ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وهل نجازي إلا الكفور‏}‏، وقوله ‏{‏ولا يجد له من دون اللّه ولياً ولا نصيراً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ إلا أن يتوب فيتوب اللّه عليه رواه ابن ابي حاتم‏.‏ والصحيح أن ذلك عام في جميع الأعمال لما تقدم من الأحاديث وهذا اختيار ابن جرير واللّه أعلم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يعمل من الصالحات من

ذكر أو أنثى وهو مؤمن‏}‏ الآية، لما ذكر الجزاء على السيئات ولأنه لا بد أن يأخذ مستحقها من العبد إما في الدنيا وهو أجود له، وإما في الآخرة والعياذ باللّه من ذلك؛ ونسأله العافية في الدنيا والآخرة، والصفح والعفو والمسامحة، شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصلاحة من عباده، ذكرانهم وإناثهم بشرط الإيمان، وأنه سيدخلهم الجنة ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير، وهو النقرة التي في ظهر نواة التمرة، وقد تقدم الكلام على الفتيل، وهو الخيط الذي في شق النواة، وهذا النقير وهما في نواة التمرة والقطمير وهو اللفاقة التي على نوات التمرة، والثلاثة في القرآن‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وم أحسن ديناً ممن أسلم وجهه للّه‏}‏‏؟‏ ايأخلص العمل لربه عز وجلَّ فعمل إيماناً واحتسابًا ‏{‏وهو محسن‏}‏ أي اتبع في عمله ما شرعه اللّه له وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما أي يكون خالصاً صواباً والخالص أن يكون لّه، والصواب أن يكون متابعاً للشرعة فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد، فمن فقد الإخلاص كان منافقاً وهم الذين يراؤون الناس، ومن فقد المتابعة كان ضالاً جاهلاً ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين ‏{‏الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم‏}‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏واتبع ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ وهم محمد وأتباعه إلى يوم القيامة، كما قال تعالى‏:‏‏{‏إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي‏}‏ الآية‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين‏}‏ والحنيف هو المائل عن الشرك قصداً أي تاركاً له عن بصيرة ومقبل على الحق بكليته لا يصده عنه صاد، ولا يرده عنه راد‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتخذ اللّه إبراهم خليلا

ً‏}‏ وهذا من باب الترغيب في اتباعه، لأنه إمام يقتدى به حيث وصل إلى غاية ما يتقرب به العباد فإنه انتهى إلى درجة الخلة التي أرفع مقامات المحبة، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه كما وصفه به في قوله‏:‏ ‏{‏وإبراهيم الذي وفَّى‏}‏ قال كثير من علماء السلف‏:‏ أي قام بجميع ما أمر به، وفّى كل مقام من مقامات العبادة، فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير، ولا كبير عن صغير، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُه بكلمات فأتمهن‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن أبراهيم كان أمة قانتاً للّه حنيفاً ولم يك من المشركين‏}‏ الآية، وقال البخاري عن عمرو بن ميمون قال‏:‏ إن معاذاً لما قدم اليمن صلى بهم الصبح فقرأ‏:‏ ‏{‏وأتخذ اللّه إبراهيم خليلاً‏}‏ فقال رجل من القوم‏:‏ لقد قرت عين أم إبراهيم، وإنما سمي خليل اللّه لشدة محبته لربه عزّض وجلَّ لما قام به من الطاعة التي يحبها ويرضاها، ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها قال‏:‏ ‏(‏أما بعد أيها الناس فلو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلاً ولكن صاحبكم خليل اللّه ‏)‏ وروى أبو بكر بن مردويه عن عكرمة عن ابن عبا

س قال‏:‏ جلس ناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم وإذا بعضهم يقول‏:‏ عجب إن اللّه اتخذ من خلقه خليلاً فإبراهيم خليله، وقال آخر‏:‏ ماذا بأعجب من أن اللّه كلم موسى تكليماً، وقال آخر‏:‏ فعيسى روح اللّه وكلمته، وقال آخر‏:‏ آدم اصطفاه اللّه، فخرج عليهم فسلم وقال‏:‏ ‏(‏قد سمعت كلامكم وتعجبكم إن إبراهيم خليل اللّه وهو كذلك، وموسى كليمه، وعيسى روحه وكلمته، وآدم اصطفاه اللّه، وهو كذلك، وكذلك محمد صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ألا وإني حبيب اللّه ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح اللّه ويدخلنيها، ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر‏)‏ وهذا حديث غريب ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها وعن إسحاق بن يسار قال‏:‏ لما اتخذ ابراهيم

خليلاً ألقى في قلبه الوجل حتى أن خفقان قلبه ليسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء، وهكذا جاء في صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل إذا اشتد غليانها من البكاء وقوله‏:‏ ‏{‏وللّه ما في السموات وما في الأرض‏}‏ أي الجميع ملكه وعبيده وخلقه، وهو المتصرف في جميع ذلك، لا راد لما قضى، ولا معقب لما حكم، ولا يسال عما يفعل لعظمته وقدرته وعدله وحكمته ولطفه ورحمته وقوله‏:‏ ‏{‏وكان اللّه بكل شيء محيطاً‏}‏ أي علمه نافذ في جميع ذلك لا تخفى عليه خافية من عباده، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا اصغر من ذلك ولا أكبر، ولا تخفى عليه ذرة لما تراءى للناظرين وما توارى‏.‏  الآية رقم ‏(‏127‏)‏ ‏{‏ ويستفتونك في الن

ساء قل الله يفتيكم في

هن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما ‏}‏ روى البخاري عن عائشة رضي اللّه عنها‏:‏ ‏{‏

ويستفتونك في النساء قل اللّه يفتيكم فيهن - إلى قوله - وترغبون أن تنكحوهن‏}‏ قالت عائشة‏:‏ هو الرجل تكون عنده اليتيمه هو وليها ووارثها فأشركته في ماله حتى في العذق، فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلاً فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها، فنزلت هذه الآية، وقال ابن أبي حاتم عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير قالت عائشة‏:‏ ثم إن الناس استفتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هذه الآية فيهن، فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏ويستفتونك في النساء قل اللّه يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب‏}‏ الآية، قالت‏:‏ والذي ذكر اللّه أنه يتلى عليه في الكتاب، الآية الأولى التي قال اللّه ‏:‏ ‏{‏وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ماطاب لكم من النساء‏}‏ وبهذا الإسناد عن عائشة قالت‏:‏ وقول اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وترغبون أن تنكحوهن‏}‏ رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره، حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن‏.‏ والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزويجها فتارة يرغب في أن يتزوجها فأمره اللّه أن يمهرها أسوة أمثالها من النساء، إن لم يفعل فليعدل إلى غيرها من النساء فقد وسع اللّه عزَّ وجلَّ، وهذا المعنى في الآية الأولى التي في أول السورة، وتارة لا يكون له فيها رغبة لدمامتها عنده أو في نفس الأمر فنهاه اللّه عزَّ وجلَّ أن يعضلها عن الأزواج، خشية أن يشركوه في ماله الذي بينه وبينها، كما قال علي بن ابي طلحة عن ابن عباس في الآية، وهي قوله‏:‏ ‏{‏في يتامى النساء‏}‏ كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك لم يقدر أن يتزوجها أبداً، فإن كانت جميلة وهويها تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبداً حتى تموت، فإذا ماتت ورثها، فحرم اللّه ذلك ونهى عنه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏والمستضعفين من الولدان

‏}‏ وكانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏لا تؤتونهنَّ ما كتب لهن‏}‏ فنهى اللّه عن ذلك وبين لكل ذي سهم سهمه فقال‏:‏ ‏{‏للذكر مثل حظ الأنثيين‏}‏ صغيراً أو كبيراً، وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏وأن تقوموا لليتامى بالقسط‏}‏ كما إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها، كذلك إذا لم تكن ذات مال ولا جمال فأنكحها وستأثر بها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما تفعلوا من خير فإن اللّه كان به عليماً‏}‏ تهييجاً على فعل الخيرات وامتثالاً للأوامر، وأن اللّه عزَّ وجلَّ عالم بجميع ذلك، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه‏.‏  الآية رقم ‏(‏128 ‏:‏ 130‏)‏ ‏{‏ وإن امر

أة خافت من بعلها نشوزا أو إعر

اضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ‏.‏ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ‏.‏ وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما ‏}‏ يقول تعالى مخبراً ومشرعاً من حال الزوجين ت

ارة في حال نفور الرجل عن المرأة، وتارة في حال اتفاقه معها، وتارة في حال فراقه لها، فالحالة الأولى‏:‏ ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها أو يعرض عنها، فلها أن تسقط عنه حقها أو بعضه من نفقة أو كسوة أو مبيت أو غير ذلك من حقوقها عليه، وله أن يقبل ذلك منها فلا حرج عليها في بذلها ذلك له، ولا عليه في قبوله منها، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والصلح خير‏}‏ أي من الفراق، وقوله‏:‏ ‏{‏وأحضرت الأنفس الشح‏}‏ أي الصلح عند المشاحة خير من الفراق، ولهذا لما كبرت سودة بنت زمعة عزم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على فراقها، فصالحته على أن يمسكها وتترك يومها لعائشة، فقبل ذلك منها أبقاها على ذلك ذكر الرواية بذلك‏:‏ عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ خشيت سودة أن يطلقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت يا رسول اللّه‏:‏ لا تطلقني واجعل يومي لعائشة، ففعل ونزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما‏}‏ الآية‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز ‏"‏أخرجه الطيالسي والترمذي وقال‏:‏ حسن غريب‏"‏وفي الصحيحين عن عائشة قالت‏:‏ لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة‏.‏ وعن عروة عن عائشة، أنها قالت لها يا ابن أختي‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يفضل بعضاً على بعض في مكثه عندنا، وكان قلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا فيدنوا من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت، وفرقت أن يفارقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا رسول اللّه يومي هذا لعائشة، فقبل ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالت عائشة، ففي ذلك أنزل اللّه ‏{‏وإن امراة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً‏}‏ ‏"‏ورواه الحاكم وقال‏:‏ صحيح الإسناد ولم يخرجاه‏"‏ وروى ابن جرير عن عائشة‏:‏ ‏{‏وإن امرأة خافت

من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير‏}‏ قالت‏:‏ هذا في المرأة تكون عند الرجل، فلعله لا يكون بمستكثر منها، ولا يكون لها ولد، ويكون لها صحبة فتقول‏:‏ لا تطلقني وأنت في حل من شأني، وفي رواية أخرى عن عائشة‏:‏ هو الرجل لها المرأتان إحداهما قد كبرت والآخرى دميمة وهو لا يستكثر منها فتقول‏:‏ لا تطلقني وأنت في حل من شأني‏.‏ وعن ابن سيرين قال‏:‏ جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فسأله عن آية فكرهه فضربه بالدرة، فسأله آخر عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً‏}‏ ثم قال مثل هذا فاسألوا، ثم قال‏:‏ هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز‏.‏ وقال ابن أبي حاتم عن خالد بن عرعرة قال‏:‏ جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فسأله عن قوله اللّه عزَّ وجلَّ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها شوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما‏}‏ قال علي‏:‏ يكون الرجل عنده المرأة فتنبوا عيناه عنها من دمامته، أو كبرها، أو سوء خلقها، أو قذذها فتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئاً حل له، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج‏.‏ وقال الحافظ أبو بكر البيهقي عن الزهري أخبر

ني سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار‏:‏ أن السنّة في هاتين الآيتين اللتين ذكر اللّه فيهما نشوز الرجل وإعراضه عن امرأته في قوله‏:‏ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً‏}‏ إلى تمام الآيتين، أن المرء إذا نشز عن امرأته وآثر عليها، فإن من الحق أن يعرض عليها أن يطلقها أو تستقر عنده على ما كانت من أثرة في القسم من ماله ونفسه، صلح له ذلك وكان صلحها عليه، كذلك ذكر سعيد بن المسيب و سليمان الصلحَ الذي قاله اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير‏}‏ وقد ذكر لي أن رافع بن خديج الأنصاري - وكان من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم - كانت عنده امرأة حتى إذا كبرت تزوج عليها فتاة شابة وآثر عليها الشابة، فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة، ثم أمهلها حتى إذا كادت تحل راجعها، ثم عاد فآثر عليها الشابة فناشدته الطلاق، فقال لها‏:‏ ما شئت إنما بقيت لك تطليقة واحدة، فإن شئت استقررت على ما ترين من الاثرة وإن شئت فارقتك، فقالت‏:‏ لا بل استقر على الأثرة، فأمسكها على ذلك فكان ذلك صلحهما، ولم ير رافع عليه إثماً حين رضيت أن تستقر عنده على الأثرة فيما آثر به عليها ‏"‏أخرجه البهيقي وابن أبي حاتم‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والصلح خير‏}‏ قال ابن عب

اس‏:‏ يعني التخيير، وهذه هي الحالة الثانية‏:‏ أن يخير الزوج لها بين الإقامة والفراق خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها، والظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية، كما أمسك النبي صلى اللّه عليه وسلم سودة بنت زمعة على أن تركت يومها لعائشة رضي اللّه عنها، ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه، وفعله ذلك لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام، ولما كان الوفاق أحب إلى اللّه من الفراق قال‏:‏ ‏{‏والصلح خير‏}‏، بل الطلاق بغيض إليه سبحانه وتعالى، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة عن عبد اللّه بن عمر قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ابغض الحلال إلى الله الطلاق‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تحسنوا وتتقوا فإن ال

لّه كان بما تعملون خبيراً‏}‏، وإن تتجشموا مشقة الصبر على ما تكرهون منهن، وتقسموا لهن أسوة أمثالهن فإن الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم‏}‏ أي لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإنه وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع كما قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك‏.‏ وجاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن عبد اللّه بن يزيد عن عائشة، قالت‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول‏:‏ ‏(‏اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك‏)‏، يعني القلب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تميلوا كل الميل‏}‏ أي فإذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في اميل بالكلية ‏{‏فتذروها كالمعلقة‏}‏ أي فتبقى هذه الأخرى معلقة، قال ابن عباس وآخرون‏:‏ معناه لا ذات زوج ولا مطلقة؛ وعن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من كانت له امرأتان فمال إلى أحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأصحاب السنن‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تصلحوا وتتقوا فإن ال

لّه كان غفوراً رحيماً‏}‏ أي وإن أصلحتم في أموركم، وقسمتم بالعدل فيما تملكون، وأتقيتم اللّه في جميع الأحوال غفر اللّه لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يتفرقا يغن اللّه كلاً من سعته وكان اللّه واسعاً حكيما‏}‏ وهذه هي الحالة الثالثة‏:‏ وهي حالة الفراق‏:‏ وقد أخبر اللّه تعالى أنهما إذا تفرقا فإن اللّه يغنيه عنها ويغنيها عنه، بأن يعوضه اللّه من هو خير له منها ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه، ‏{‏وكان اللّه واسعاً حكيما‏}‏ أي واسع الفضل عظيم المن حكيماً في جميع أفعاله وأقداره وشرعه‏.‏  الآية رقم ‏(‏131 ‏:‏ 134‏)‏ ‏{‏ ولله م

ا في السماوات وما في الأرض ول

قد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا ‏.‏ ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ‏.‏ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا ‏.‏ من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا ‏}‏ يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض وأنه ا

لحاكم فيهما ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم‏}‏ أي وصيناكم بما وصيناهم به من تقوى اللّه عزّض وجلَّ بعبادته وحده لا شريك له، ثم قال‏:‏ ‏{‏وإن تكفروا فإن للّه ما في السموات وما في الأرض‏}‏ الآية، كما قال تعالى إخباراً عن موسى أنه قال لقومه‏:‏ ‏{‏إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن اللّه لغني حميد‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏فكفروا وتولوا واستغنى اللّه واللّه غني حميد‏}‏ أي غني عن عباده، ‏{‏حميد أي محمود في جميع ما يقدره ويشرعه، وقوله‏:‏ ‏{‏وللّه ما في السموات وما في الأرض الأرض وكفى بالله وكيلاً‏}‏ أي هو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب الشهيد على كل شيء، وقوله‏:‏ ‏{‏إن يشا يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان اللّه على ذلك قديراً‏}‏ أي هو قادر على إذهابكم وتبديلكم بغيركم إذا عصيتموه، كما قال‏:‏ ‏{‏وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم‏}‏ قال بعض السلف‏:‏ ما أهون العباد على اللّه إذا أضاعوا أمره‏!‏‏!‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد* وما ذلك على اللّه بعزيز‏}‏ أي وما هو عليه بممتنع‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد ثواب الدنيا

فعند اللّه ثواب الدينا والآخرة‏}‏ أي يا من ليس له همة إلا الدنيا اعلم أن عند اللّه ثواب الدنيا والآخرة وإذا سألته من هذه وهذه أعطاك وأغناك وأقناك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد‏}‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فعند اللّه ثواب الدنيا والآخرة‏}‏ ظاهر في حصول الخير في الدنيا والآخرة، أي بيده هذا وهذا، فلا يقتصران قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة، فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع، وهو اللّه الذي لا إله إلا هو، الذي قد قسم السعادة والشقاوة بين الناس في الدنيا والآخرة، وعدل بينهم فيما علمه فيهم ممن يستحق هذا، وممن يستحق هذا، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وكان اللّه سميعاً بصيراً‏}‏  الآية رقم ‏(‏135‏)‏ ‏{‏ يا أيها الذين آم

نوا كونوا قوامين بالق

سط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ‏}‏ يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامي

ن بالقسط أي بالعدل فلا يعدلوا عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تأخذهم في اللّه لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏شهداء للّه‏}‏ كما قال‏:‏ ‏{‏وأقيموا الشهادة للّه‏}‏ أي أدوها ابتغاء وجه اللّه، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقاً، خالية من التحريف والتبديل والكتمان، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولو على أنفسكم‏}‏ أي أشهد الحق ولو عاد ضررها عليك، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه لو عادت مضرته عليك، فإن اللّه سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً من كل أمر يضيق عليه، وقوله‏:‏ ‏{‏أو الوالدين والأقربين‏}‏ أي وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك فلا تراعهم فيها، بل اشهد الحق وإن عاد ضررها عليهم فإن الحق حاكم على كل أحد، وقوله‏:‏ ‏{‏وإن يكن غنياً أو فقيراً فاللّه أولى بهما‏}‏ أي لا ترعاه لغناه ولا تشفق عليه لفقره، اللّه يتولاهما، بل هو أولى بهما منك وأعلم بما فيه صلاحهما وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا‏}‏ أي فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ ومن هذا قول عبد اللّه بن رواحة لما بعثه النبي صلى اللّه عليه وسلم يحرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهمم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال‏:‏ والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليّ ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير وما يحملني حبي إياه، وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم، فقالوا‏:‏ بهذا قامت السموات والأرض‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تلووا أو تعرضوا‏}‏ ق

ال مجاهد‏:‏ تلووا أن تحرفوا الشهادة وتغيروها، واللّي‏:‏ هو التحريف وتعمد الكذب‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب‏}‏ الآية، والإعراض‏:‏ هو كتمان الشهادة وتركها‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ون يكتمها فإنه آثم قلبه‏}‏، وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسألها‏)‏، ولهذا توعدهم اللّه بقوله‏:‏ ‏{‏فإن اللّه كان بما تعملون خبيراً‏}‏ أي وسيجازيكم بذلك‏.‏  136 ‏{‏ يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله و

رسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ‏}‏ يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرا

ئع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل هو من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته الاستمرار عليه، كما يقول المؤمن في كل صلاة ‏{‏إهدنا الصراط المستقيم‏}‏ أي بصّرنا وزدنا هدى، وثبتنا عليه، فأمرهم بالإيمان به وبرسوله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وآمنوا برسوله‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏والكتاب الذي نزل على رسوله‏}‏ يعني القرآن ‏{‏والكتاب الذي أنزل من قبل‏}‏ وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة، وقال في القرآن ‏{‏نزّل‏}‏ لأنه نزل مفرقاً منجماً على الوقائع بحسب ما يحتج إليه العباد في معاشهم ومعادهم، وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة، لهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏والكتاب الذي أنزل من قبل‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يكفر باللّه وملائكته وكتبه ورسله اليوم الآخر فقد ضل صلالاً بعيداً‏}‏ أي فقد خرج عن طريق الهدى، وبعد عن القصد كل البعد‏.‏  الآية رقم ‏(‏137 ‏:‏ 140‏)‏ ‏{‏ إن الذين آمن

وا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا

ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ‏.‏ بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ‏.‏ الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ‏.‏ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ‏}‏ يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان ثم رجع عنه،

ثم ع

اد فيه، ثم رجع واستمر على ضلالة وازداد حتى مات، فإنه لا توبة بعد موته، ولا يغفر اللّه له، ولا يجعل له مما هو فيه فرجاً ولا مخرجاً ولا طريقاً إلى الهدى، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لم يكن اللّه ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً‏}‏ قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم ازدادوا كفراً‏}‏ قال‏:‏ تمادوا على كفرهم حتى ماتوا‏.‏ وعن علي رضي اللّه عنه أنه قال‏:‏ يستتاب المرتد ثلاثاً، ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن اللّه ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً‏}‏ يعني أن المنافقين من هذه الصفة فإنهم آمنوا ثم كفروا، فطبع على قلوبهم، ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، بمعنى أنهم معهم في الحقيقة يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة، ويقولون لهم إذا خلوا بهم ‏{‏إنما نحن معكم إنما نحن مستهزءون‏}‏ أي بالمؤمنين في إظهارنا لهم الموافقة، قال اللّه تعالى منكراً عليهم فيما سلكوه من موالاة الكافرين ‏{‏أيبتغون عندهم العزة‏}‏ ثم أخبر اللّه تعالى بأن العزة كلها له وحده لا شريك له ولمن جعلها له كما قال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون‏}‏، والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جناب اللّه، والإقبال على عبوديته والانتظام في جملة عباده المؤمنين، الذين لهم النصرة في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ وقد نزَّل عليكم في الكتاب أن إذ

ا سمعتم آيات اللّه يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم‏}‏، أي إنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم، ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات اللّه ويستهزأ وينتقص بها، وأقررتموهم على ذلك فقد شاركتموهم في الذي هم في فلهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنكم إذا مثلهم‏}‏ في المأثم كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر‏)‏ والذي أحيل عليه في هذه الآية من النهي في ذلك، هو قوله تعالى في سورة الأنعام وهي مكية‏:‏ ‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم‏}‏ الآية‏.‏ قال مقاتل بن حيان‏:‏ نَسَختْ هذه الآية التي في سورة الأنعام، يعني نسخ قوله‏:‏ ‏{‏إنكم إذا مثلهم‏}‏، لقوله‏:‏ ‏{‏وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً‏}‏، أي كما أشركوهم في الكفر، كذلك يشارك اللّه بينهم في الخلود في نار جهنم أبداً، ويجمع بينهم في دار العقوبة والنكال والقيود والأغلال وشراب الحميم والغسلين‏.‏  الآية رقم ‏(‏141‏)‏ ‏{‏ الذين يتربصون بكم فإ

ن كان لكم فتح من الله

قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ‏}‏ يخبر تعالى عن المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمني

ن دوائر السوء، بمعنى ينتظرون زوال دولتهم وظهور الكفرة عليهم وذهاب ملتهم، ‏{‏فإن كان لكم فتح من اللّه‏}‏ أي نصر وتأييد وظفر وغنيمة‏:‏ ‏{‏قالوا ألم نكن معكم‏}‏‏؟‏ أي يتوددون إلى المؤمنين بهذه المقالة، ‏{‏وإن كان للكافرين نصيب‏}‏‏:‏ أي إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان كما وقع يوم أُحد، فإن الرسل تبتلي ثم يكون لها العاقبة، ‏{‏قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين‏}‏‏؟‏ أي ساعدناكم في الباطن وما ألوناهم خبالاً وتخذيلاً حتى انتصرتم عليهم، وقال السدي‏:‏ نستحوذ عليكم‏:‏ نغلب عليكم، كقوله‏:‏ ‏{‏استحوذ عليهم الشيطان‏}‏ وهذا أيضاً تودد منهم إليهم، فإنهم كانوا يصانعون هؤلاء وهؤلاء ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم، وما ذاك إلا لضعف إيمانهم وقلة إيقانهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاللّه يحكم بينكم يوم القيامة‏}‏ أي بما يعلمه منكم أيها المنافقون من البواطن الرديئة، فلا تغتروا بجريان الأحكام الشرعية عليكم ظاهراً في الحياة الدنيا، لما له في ذلك من الحكمة، فيوم القيامة لا تنفعكم ظواهركم، بل هو يوم تبلى فيه السرائر ويحصل ما في الصدور‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن يجعل اللّه للكافرين على

المؤمنين سبيلاًؤ جاء رجل إلى علي بن ابي طالب فقال‏:‏ كيف هذه الآية ‏{‏ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً‏}‏‏؟‏ فقال علي رضي اللّه عنه‏:‏ ادنه ادنه ‏{‏فاللّه يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً‏}‏ قال ذاك يوم القيامة، وكذا روى السدي‏:‏ يعني يوم القيامة، وقال السدي ‏{‏سبيلاً‏}‏ أي حجة، ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً أي في الدنيا، بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا‏}‏ الآية، وعلى هذا يكون رداً على المافقين فيما أمَّلوه ورجوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين خوفاً على أنفسهم منهم، إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم، كا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم - إلى قوله - نادمين‏}‏، وقد استدل كثير من العلاماء بهذه الآية الكريمة على أصح قولي العلماء وهو المنع من بيع العبد المسلم للكافرين لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال، ومن قال منهم بالصحة يأمره بإزالة ملكه عنه في الحال، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا‏}‏  الآية رقم ‏(‏142 ‏:‏ 143‏)‏ ‏{‏ إن المنافقين

يخادعون الله وهو خادعهم وإذا

قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ‏.‏ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ‏}‏ قد تقدم في أول سورة البقرة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخ

ادعون اللّه والذين آمنوا‏}‏، وقال ههنا‏:‏ ‏{‏إن المنافقين يخادعون اللّه وهو خادعهم‏}‏ ولا شك أن اللّه لا يخادع، فإنه العالم بالسرائر والضمائر، ولكن المنافقين لجهلهم وقلة علمهم وعقلهم، يعتقدون أن أمرهم - كما راج عند الناس وجرت عليهم أحكام الشريعة ظاهراً - فكذلك يكون حكمهم عند اللّه يوم القيامة، وأن أمرهم يروج عنده، كما أخبر تعالى عنهم أنهم يوم القيامة يحلفون له أنهم كانوا على الاستقامة والسداد، ويعتقدون أن ذلك نافع لهم عنده، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يبعثهم اللّه جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏وهو خادعهم‏}‏ أي هو الذي يستدرجهم في طغيانهم وضلالهم ويخذلهم عن الحق والوصول إليه في الدنيا، وكذلك يوم القيامة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم - إلى قوله - وبئس المصير‏}‏، وقد ورد في الحديث‏:‏ ‏(‏من سمَّع سمع اللّه به، ومن رايا رايا اللّه به‏)‏، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏إن اللّه يأمر بالعبد إلى الجنة فيما يبدو للناس ويعدل به إلى النار‏)‏ عياذاً باللّه من ذلك‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كس

الى‏}‏ الآية، هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها، وهي الصلاة إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها، لأنهم لا نية لهم فيها ولا إيمان لهم بها ولا خشية، ولا يعقلون معناها كما روى ابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان ولكن يقوم إليها طلق الوجه، عظيم الرغبة شديد الفرح، فإنه يناجي اللّه، وإن اللّه تجاهه يغفر له ويجيبه إذا دعاه، ثم يتلو هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى‏}‏، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى‏}‏ هذه صفة ظواهرهم كما قال‏:‏ ‏{‏ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى‏}‏، ثم ذكر تعالى صفة بواطنهم الفاسدة، فقال‏:‏ ‏{‏يراءون الناس‏}‏ أي لا إخلاص لهم ولا معاملة مع اللّه، بل إنما يشهدون الناس تقيَّة لهم ومصانعة، ولهذا يتخلفون كثيراً عن الصلاة التي لا يرون فيها غالباً ك صلاة العشاء في وقت العتمة وصلاة الصبح في وقت الغلس‏.‏ كما ثبت في الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال ومعهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده لو علم أحدهم أنه يجد عِرْقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد الصلاة، ولولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقت عليهم بيوتهم بالنار‏)‏ وقال الحافظ أبو يعلى عن عبد اللّه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من أحسن الصلاة حيث يراه الناس، واساءها حيث يخلو، فتلك استهانة استهان بها ربه عزَّ وجلَّ‏)‏؛ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يذكرون اللّه إلا قليلاً‏}‏ أي في صلاتهم لا يخشعون ولا يدرون ما يقولون، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون، وعما يراد بهم من الخير معرضون‏.‏ وقد روى الإمام مالك عن أنس بن مالك عن أنس بن مالك قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏تلكَ صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق‏:‏ يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر اللّه فيها إلا قليلاً‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء

ولا إلى هؤلاء‏}‏ يعني المنافقين محيرين بين الإيمان والكفر فلا هم مع المؤمنين ظاهراً وباطناً ولا مع الكافرين ظاهراً وباطناً، بل ظواهرهم مع المؤمنين وبواطنهم مع الكافرين، ومنهم من يعتريه الشك فتارة يميل إلى هؤلاء وتارة يميل إلى أولئك، ‏{‏كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا‏}‏، وقال مجاهد ‏{‏مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء‏}‏ يعني أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم، ‏{‏ولا إلى هؤلاء‏}‏ يعني اليهود، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏مثل المنافق كمثل الشاة العاثرة بين الغنمين‏)‏ ‏"‏رواه أحمد عن ابن عمر مرفوعاً‏"‏ وقال ابن جرير عن قتادة ‏{‏مذبذبين بين ذلك لا إلى

هؤلاء ولا إلى هؤلاء‏}‏ يقول‏:‏ ليسوا بمؤمنين مخلصين، ولا مشركين مصرحين بالشرك قال‏:‏ وذكر لنا أن نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يضرب مثلاً للمؤمن وللمنافق وللكافر كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر فوقع المؤمن فقطع، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر‏:‏ أن هلم إليّ فإني أخشى عليك، وناداه المؤمنين‏:‏ أن هلم إلي فإن عندي وعندي يحصي له ما عنده، فما زال المنافق يتردد بينهما حتى أتى عليه الماء فغرقه، وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك، قال‏:‏ وذكر لنا أن نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏(‏مثل المنافق كمثل ثاغية بين غنمين رأت غنماً على نشز فأتتها وشامتها فلم تعرف، ثم رأت غنماً على نشز فأتتها فشامتها فلم تعرف‏)‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يضلل اللّه فلن تجد له سبيلاً‏}‏ أي ومن صرفه عن طريق الهدى ‏{‏فلن تجد له ولياً مرشداً‏}‏، فإنه ‏{‏من يضلل اللّه فلا هادي له‏}‏، والمنافقون الذين أضلهم عن سبيل النجاة فلا هادي لهم، ولا منقذ لهم مما هم فيه، فإنه تعالى لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون‏.‏